لماذا أنا هنا فى هذه الحياة الدنيا ؟
الإنسان الذى يضيع منه هدف حياته يدركه الملل والتعب، وترهقه الحياة النمطية التى لاهدف لها ولا غاية منها يصحو الإنسان فى الصباح ، يتناول إفطاره ويرتدى ملابسه للخروج ، ويمضى ويسعى لكسب قوته وقوت عياله ، وفى عمله يلتقى بوجوه ، يلتقى بها عادة كل يوم، ويعود من عمله إلى بيته ، يأكل ثم يستريح بعض الوقت وقد لايستريح ، ويستأنف عمله بعينه أو عملاً آخر يُدّر عليه مزيداً من الرزق ، ويعود إلى بيته ، وينام سحابة ليله، ثمَّ ينهض فى اليوم التالى ليكرر مافعله بالأمس وإذا كانت حياة الإنسان فى الماضى كان يعتورها ، على نوع ما، بعض التغيير، بيد أن الإنسان المعاصر، فى عصر الآلة، ضاقت أمامه فرص التغيير والمفاجآت وصارت حياته رتيبة ، منتظمة بالساعة والدقيقة والثانية كل عمل محسوب زمنه ، متى يبدأ ومتى ينتهى وهو هو بعينه يخرج فى وقت محكوم بالدقيقة والثانية ، ويعود من عمله فى وقت محكوم بالدقيقة والثانية ، ويحيا فى زمن صار كل عمل مقسَّما إلى أجزاء ، وقد يكون على العامل مثلاً أن يقضى ساعات العمل فى نوع واحد من العمل ، أو فى جزئية تخصص فيها، ولايحيد عنها إلى جزئية أخرى تدخل فى إختصاص مسئول آخر وهذا العمل الروتينى يتكرر كل يوم مع هذه الحياة النمطية المتكررة يحدث الملل والسأم والضجر وهنا يسأل الإنسان نفسه : هل هذه هى حياتى ؟ هل أنا خُلقت من أجل هذا العمل النمطى ؟ إنى أشعر بفراغ فى نفسى وأسأل نفسى : هل أنا وجدت فى هذه الحياة الدنيا لكى آكل وأشرب وأعول أسرة ثم أموت ؟ أليس من هدف أسمى يتمشى مع إنسانيتى ؟ ما الفرق بينى وبين الآلة الصماء؟ ما الفرق بينى وبين الدواب والمواشى والحيوانات العَجْمَاوات ؟
يالشقاء الإنسان عندما يفقد الهدف من وجوده فى هذه الحياة الدنيا إنَّ الدابة والحشرة تصير عندئذ أفضل منه ، لأنها لاتحس بما يحِسه الإنسان من ضياع عندما يفقد هدف وجوده إن حياته تمسى بلا معنى ويصير مثله مثل السفينة التى فقدت بوصلتها ، فتتخبط، وتفقد طريقها ، إنه يمسى تائها يبحث عن مخرج أو غاية ينتهى إليها وكأنه مع بنى إسرائيل فى برية سيناء فى صحراء التيه ( سفر العدد 32: 13) يسير فى طريق يظنه أنه سيؤدى به إلى مايُريد ، وبعد أن يصل فى الطريق إلى نهايته يجده مسدوداً فيعود من حيث بدأ ، ليبدأ من جديد طريقاً آخر، يعود بعده نادما لأنه أيضا لم يبلغ به إلى هدف!
أما الإنسان الذى عَرَفَ له فى حياته هدفا فما أسعده! إنه يناضل ويكافح ويعمل من أجل هذا الهدف، ولن يدركه الملل والسأم والضجر، التى تدرك من ليس فى حياته هدف. ثم إنه تزداد عنده قيمة الوقت ، وأهميته ، فالوقت سلاحه يشهره ضدّ الكسل والتراخى والملل ، وبه ينتصر ويتغلب على مايعترض حياته من صعوبات فمادام يعلم أن لحياته هدفاً ، فهو سائر نحو هدفه لايبالى بالعقبات حتى يصل
يقول القديس أوغسطينوس فى إعترافاته ( ياإلهى ، إنَّ النفس تظلُّ قلقة ، ولن تجد الراحة إلاّ فيك )
هنا الفرق الواضح الواسع بين المؤمن والملحد المؤمن هدفه واضح عنده إنه يؤمن بأن الله خالقه ، وقد خلقه وأرسله إلى العالم لمهمة سامية ، أن يعمل مع خالقه ، ولحساب سيّده ، ينشر الخير، والحق والجمال ، يعمل ويخلق ويبتكر ويبدع بما وهبه الله من عقل وقدرات على صورة خالقه ومثاله وقدراته هى وزناته التى أرسله بها سيده ليتاجر بها ويربح ثم يعود إلى خالقه بوزناته وأرباحها فينال عن عمله رضاه وجزاءه المبارك ، ويسعد بدخوله فى حضرته ، ومعاينة جلاله ، وبما يضفيه عليه سيده فى ملكوته من كرامة ، بعد أن يسمع من جلاله رأيه السعيد فيه (أحسنتَ أيها العبد الصالح والأمين بما أنك كنتَ أمينا فى القليل سأقيمك على الكثير ادخل إلى فرح سيدك) ( متى25: 21- 23)
ويقول الوحى الإلهى على فم القديس بولس الرسول ( لأننا نحن عمله ، مخلوقين فى المسيح يسوع للأعمال الصالحة التى سبق الله فأعدها لنسلك فيها) (أفسس 2: 10) ثم يقول ( أسعى لعلّى أدرك الذى لأجله أدركنى أيضا المسيح يسوع أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا فى المسيح يسوع) (فيلبى 3: 12- 14)
فما أسعد الإنسان الذى يعلم ويؤمن أنه جاء إلى الحياة الدنيا مرسلاً من الله ليحقق هدفاً خلقه الله من أجله إنه صاحب رسالة ورسالته فى الحياة أن يحقق الخير فى الدنيا لنفسه وللأغيار، وأن يجاهد ويسعى لإنجاز رسالته ومهمته ولايضيع وقته فى تفاهات وفى أمور صغيرة ليس يليق به ، وبشرف مهمته ورسالته الخطيرة أن يصرف همه فيها ، متغافلاً عن رسالته العليا ، الخليقة به فإذا أنجز مهمته وأتمَّ رسالته فى حياته ، مضى بالموت سعيداً ، يحمل أعماله الصالحة بين يديه ، فينال من سيده الجعالة والمكافأة ، لأنه عرف الهدف من وجوده فى الدنيا ، وحقق الهدف الذى من أجله أرسله سيّده إلى الأرض.
للأنبا غريغوريس أسقف البحث العلمى