محاسبة النفس من كتاب كيف نبدأ عامًا جديدًا - للبابا شنوده الثالث
باسم الآب والابن والروح القدس-إله واحد آمين
نحن الآن في آخر العام، ونريد أن نبدأ عامًا جديدًا. ما تزال أمامنا بضعة أيام، نريد أن نختم بها عامنا هذا، الذي إن لم نكن قد جعلنا سيرته صالحة، فعلي الأقل: ليتنا ننتهي من هذا العام بنهاية صالحة. فكيف إذن ننهي عامنا هذا ونبدأ آخر؟
يحتاج كل منا إلي جلسة هادئة مع نفسه.
ما أكثر ما ينشغل الناس بحفلات رأس السنة وبرامجها والإعداد لها، بحيث يكونون في مشغولية وزحام، وفي لقاءات واهتمامات، لا تعطيهم فرصة علي الإطلاق للجلوس مع أنفسهم. وربما في هذه البرامج يسمعون محاضرات عن أهمية الجلوس مع النفس، دون أن يكون لهم وقت للجلوس مع النفس. أما أنتم فليتكم تجدون وقتًا أو ترتبون وقتًا، في خلوة وهدوء، تنفردون فيه بأنفسكم.
تفتشون هذه النفس، وتفحصونها، هي وظروفها كلها.
تكون جلسة حساب، وربما جلسة عتاب، أو جلسه عقاب.. وتكون جلسة تخطيط للمستقبل، تفكير فيما يجب أن تكونوا عليه في العام المقبل، في جو من الصلاة، وعرض الأمر علي الله، لكي تأخذوا منه معونة وإرشادًا.. جلسة يناقش فيها الإنسان كل علاقاته، سواء مع نفسه أو مع الآخرين أو مع الله، بكل صراحة ووضوح.
ويحاول أن يخرج من كل هذا بخطة جديدة للعام الجديد.
خطة عمل، أو خطة عملية، ومنهج حياة.. كما حدث للابن الضال: إذ جلس إلي نفسه، وفحص حالته، وخرج بقرار حاسم لما ينبغي عليه أن يعمله. أقول هذا، لأن كثيرًا من الناس يعيشون في دوامة، لا يعرفون فيها كيف يسيرون أو إلي أين يسيرون يسلمهم الأمس إلي اليوم، ويسلمهم اليوم إلي غد، وهم في متاهة الأمس واليوم والغد، لا يعرفون إجابة من يقول لهم: إلي أين؟
أناس يعيشون في غيبوبة عن روحياتهم وأبديتهم.
وخط سيرهم ليس واضحًا أمامهم. وربما يهتمون بتفاصيل كثيرة ودقيقة. وكلن الهدف تائه من أمامهم. والخيوط التي تشدهم إلي واقعهم هي خيوط قوية، كأنها سلاسل لا ينفكون منها لذلك هم في حاجة إلي جلسة هادئة مع النفس، يفحصون فيها كل شيء، بكل صراحة، ويصلون إلي حل، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. إني أعجب من أشخاص يأخذون عطلات من أعمالهم لأسباب كثيرة، وربما لزيارة أو مقابلة أو لسفر أو رحلة، أو لمجرد الراحة أو الترفيه عن النفس.. بينما لم أسمع عن أحد أنه أخذ عطلة من عمله، لكي يجلس مع نفسه ويفحصها.. ولكي يحاسبها علي عام طويل: ماذا فعلت فيه مما يرضي الله، وماذا فعلت مما يغضبه؟
إن بداية عام هي مناسبة هامة لمحاسبة النفس.
كثيرون من الروحيين يحاسبون أنفسهم في مناسبات معينة: قبل الاعتراف والتناول مثلًا، أو في نهاية كل يوم، أو بعد عمل معين يحتاج إلي فحص من الضمير. أما جلسة الإنسان في نهاية العام، فهي حساب إجمالي أو حساب عام، يتناول فيه الحياة كلها.
ربما يفحص الخطايا المتكررة والمسيطرة في حياته.
الخطايا التي تكاد تكون عنصرًا ثابتًا في اعترافاته، ونقطة ضعف مستمرة في حياته. ويفحص ما هي أسبابها ودوافعها، وكيف يمكن أن يتخلص من هذه الأسباب، وكيف يحيا بلا عثرة. إن الله عليه العمل الأكبر في تخليصه، ولكن لا شك أن هناك عملًا من جانبه كإنسان لابد يعمله، ليكون في شركة مع الله.
وقد يفحص الإنسان صفاته الشخصية التي يتميز بها.
وماذا ينبغي من هذه الصفات أو يستبدل بغيره؟ وهل تحولت بعض الخطايا إلي هادات له، أو إلي طباع أو صفات ثابتة.. كإنسان مثلًا، أصبحت في صفاته حساسية زائدة نحو كرامته، فهو يغضب بسرعة لأي سبب يحس أنه يمس هذه الكرامة.. وصار هذا فيه، أو صفة ثابتة.. وهو محتاج أن يغير هذا الطبع، ويتخلص من هذه الحساسية، ويصير واسع لطيفًا ومحتملًا.. هنا يفحص الصفة كلها مجرد عارضة من قصص غضبه.. ليت جلستك مع نفسك تكون مرآة روحية لك.. تعطيك صورة عن نفسك، صورة طبيعية تمامًا بغير رتوش، بغير دفاعا بغير تبرير، بغير مجاملة للذات، بغير تدليل للذات. إنك قد تتأثر إذا كشفك إنسان وأظهر لك حقيقتك، التي قد يجرحك معرفة الناس لها. ولكن لا تكون في مثل هذا التأثر، إذا ما كشفت نفسك بنفسك، لكي تعرفها فتصلحها. ولكي تكشف أمراضها فتعالجها. لذلك فلتكن جلستك مع نفسك، مثل أشعة تعطي صورة حقيقة للداخل، وتكشف ما يوجد فيه.
لتكن جلستك مع نفسك، جلسة ضمير نزيه..
أو جلسة قاض عادل، يحكم بالحق، جلسة صريحة، حاسمة، وحازمة. وحاسب نفسك في صراحة، علي كل شيء: خطايا الفكر خطايا القلب والرغبات والمشاعر، خطايا اللسان، خطايا الجسد، خطاياك من جهة نفسك ومن جهة الآخرين.. علاقتك مع الله، وتقصيراتك في الوسائط الروحية.. الخطايا الخاصة بوجوب النمو: هل أنت تنمو روحيًا أم حياتك واقفة؟ لا تترك شيئًا في حياتك دون أن تكشفه لتعرفه، فتتخذ موقفًا تجاهه..
أجلس إلي نفسك لتقيمها، وتعيد تشكيلها من جديد.
أهتم بروحك، وراجع حياتك كلها. لا تقل "هكذا هي طباعي" أو "هكذا هي طبيعتي". كلا. فالذي يحتاج فيك إلي يتغير، ينبغي أن يتغير. وليست طباعك شيئًا ثابتًا، فكما اكتسبتها يمكن أن تكتسب عكسها. أما طبيعتك فهي صورة الله ومثاله. وكل ما فيك من أخطاء، عبارة عن أشيئا عارضة. فارجع إلي صورتك الإلهية، فهي طبيعتك الحقيقية. أمسك شخصيتك، وأعد تشكيلها من جديد، في هذه الجلسة المصيرية التي تجلسها مع نفسك. والصفات الجديدة التي تلزمك، أبحث كيف تقتنيها، ولو بتداريب تغضب عليها إرادتك، وتصارع فيها مع الله ليعينك.
وليكن العام الجديد، عامًا جديدًا في كل شيء.
أحرص في جلستك مع نفسك، التي تجلس فيها مع الله، أن تخرج منها وقد تغير فيك كل ما يجب تغييره من أخطاء ونقائض. تخرج منها بخط سير جديد في الحياة، وبطباع جديدة، يحس بها كل من يختلط بك.
وحاول أن توجه كل طاقاتك توجيهًا سليمًا..
فمثلًا توجد في داخل نفسك طاقة عصيبة، يمكن أن توجهها نحو نفسك في أخطائها، ويمكن أن توجهها نحو الناس. فاحرص أن يكون توجيهها سليمًا، بعيدًا عن الذاتية، خالصًا من أجل الله، وبأسلوب روحي لا أخطاء فيه. وفي داخلك أيضًا توجد طاقة حب، حاول أن تجعلها تسير بتوجيه سليم، فتكون لك أولًا، وللخير ثانيًا، وللناس في نطاق حب الله وحب الخير. وأحرص في جلستك مع نفسك أن تجعل هذه الطاقة لا تنحرف. ولا تجعل حبًا علي حساب حب.. كذلك كل مواهبك التي منحك الله إياها، فلتكن موجهة توجيهًا سليمًا لله والخير. كالذكاء مثلًا، هو موهبة من الله. لا تتخذه للأضرار بغيرك، أو للفخر والكبرياء، أو لمجرد الانتصار في الجدل والمناقشة، أو لتنفيذ رغباتك الخاطئة.
وليكن العام الجديد عامًا منتصرًا في حياتك..
أستعرض في جلستك مع نفسك النواحي التي تنهزم فيها روحيًا. وقل لنفسك ينبغي أن أحيا حياة النصرة ظن فلا أنهزم في كذا وكذا، بل يقودني الرب في موكب نصرته، ويعطيني الوعود التي وعد بها الغالبين (رؤ2، 3). ليكن عامًا فيه نمو روحي، وتقدم وصعود إلي فوق..
ولذلك قرر في جلستك، أن تبعد عن العثرات..
وكل إنسان له في حياته ما يعثره شخصيًا، فالفحص ما هي عثراتك، وابعد عنها "إن كانت عينك اليمين تعثرك، فاقلعها والقها عنك.. وإن كانت يدك اليمني تعثرك، فاقطعها والقها عنك.." (مت 5: 29، 30). إلي هذا الحدة يريدنا الرب أن نبعد عن العثرات. فكن حاسمًا في هذا الأمر. وكما تبعد عن العثرات، أحرص أيضًا أنك لا تكون عثرة لغيرك.. وتذكر قول الرب:
أذكر من أين سقطت وتب (رؤ2: 5).
وفي ذلك لا تتساهل مطلقًا، ولا تسامح نفسك ولا تدللها. وإن احتاج القيام من سقطتك، أن تؤدب نفسك وتعاقبها حتى لا تعود إلي أخطائها، فكن شديدًا في تأديبك لنفسك. وخذ حق الله كاملًا منها. لأنه ينبغي أن تحب الله أكثر من نفسك. لأنه قال: من ضيع نفسه من أجلي يجدها (مت 10: 39) وقال إنه من أجله ينبغي أن تبغض حتى نفسك (لو 14: 26). فبذلك تحفظها لحياة أبدية..
حاسب نفسك وبكتها. ولكن احترس من شيطان اليأس..
كن حكيمًا في محاسبتك لنفسك، وحيكمًا في تبكيتها وتأديبها. وإن وجدت في محاسبتك لنفسك أن الكآبة القاتلة ستملك عليك، وتدفعك إلي اليأس، تذكر حينئذ مراحم الله، ووعود، وتحويله الخطاة إلي قديسين.. حينئذ يمتلئ قلبك بالفرح الروحاني، كما قال الرسول: "فرحين في الرجاء" (رو12: 12). وفي جلستك مع نفسك، لا تركز فقط علي التوبة، إنما تذكر أيضًا أنه مطلوب منا القداسة والكمال، فقد أوصانا الكتاب قائلًا:
كونوا قديسين.. كونوا كاملين..
"نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيًا قديسين.. لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس" (1بط 1: 15، 16). وقال الرب أيضا "فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت 5: 48). إن التوبة هي مجرد الخطوة الأولي إلي الله. وهناك خطوات أخري كثيرة بعدها، لنصل إلي حياة الكمال. فيجب ألا نركز علي التوبة وحدها، وإلا كان جهادنا كله في التخلص من السلبيات، دون أن ننتقل علميًا إلي الإيجابيات..
إن ترك الخطية هو نقطة الابتداء وعمل المبتدئين..
فلا نقف إذن عند هذه النقطة، وإنما نتجاوزها سائرين نحو القداسة. أما إن كنا لم نصل بعد إلي عمل المبتدئين هذا، فنحن إذن لسنا أعضاء في جسد الرب كما أراد لنا أن نكون.. إن كنا ما نزال نقع ونقوم، وبعد أن نقوم، نقع مرة أخري، فنحن لم نصل إلي التوبة بعد. لا يا أخوتي لا يجوز أن تسير الأمور هكذا..
لا يجوز أن نقضي حياتنا في مرحلة التوبة..
ليس من صالحنا أن نقضي عمرنا كله، صراعًا ضد الخطية، وجهادًا للوصول إلي التوبة. إنما علينا أن نسرع في الطريق لنصل إلي الله، ونتمتع بعشرة الملائكة والقديسين.. وننمو في درجات القداسة وفي طريق الكمال.
وليكن هذا العام مباركًا عليكم.. يعطيكم الرب نعمة فيه، توصلكم إليه.